بين حماية الطفولة وحرية التعبير.. هل تنجح الإجراءات البريطانية في تحقيق الأمان الرقمي؟
بين حماية الطفولة وحرية التعبير.. هل تنجح الإجراءات البريطانية في تحقيق الأمان الرقمي؟
في خطوة وُصفت بأنها منعطف تاريخي في تنظيم الفضاء الرقمي، بدأت المملكة المتحدة بتطبيق إجراءات مشددة تهدف لحماية الأطفال من المحتوى الضار على الإنترنت، هذه الخطوة، التي تأتي في إطار قانون السلامة على الإنترنت لعام 2023، تلزم شركات التكنولوجيا والمنصات الرقمية باستخدام آليات للتحقق من أعمار المستخدمين قبل السماح لهم بالوصول إلى محتوى قد يكون خطيرًا أو غير مناسب.
وبينما يراها نشطاء حقوق الطفل خطوة طال انتظارها، تثير الإجراءات الجديدة نقاشًا واسعًا حول تأثيرها في الخصوصية، حرية التعبير، ومستقبل الابتكار في عالم الإنترنت.
وبموجب القانون المختص في بريطانيا، باتت المواقع والتطبيقات التي تقدم محتوى حساسًا، كالمواد الإباحية أو المحتوى الذي يروّج للعنف والانتحار أو اضطرابات الأكل، ملزمة بتطبيق وسائل تحقق دقيقة مثل استخدام صور الوجه أو بطاقات الائتمان، وتُعد هذه الخطوة سابقة على المستوى التنظيمي؛ إذ أعلنت ميلاني داوز، الرئيسة التنفيذية لهيئة أوفكوم، أن نحو ستة آلاف موقع إباحي التزمت بهذه القيود الجديدة.
الهدف من هذه الإجراءات لا يقف عند الحد من وصول الأطفال إلى المحتوى الإباحي فحسب، بل يشمل تقليل تعرضهم لأي محتوى قد يؤذي نفسيتهم أو يشجع على سلوكيات خطيرة، وترافق هذا التشدد مع عقوبات مالية كبيرة قد تصل إلى 10% من الإيرادات العالمية للشركات المخالفة، إضافة إلى تهديدات باتخاذ إجراءات جنائية بحق المديرين التنفيذيين في حال عدم التعاون مع طلبات التحقيق أو جمع البيانات اللازمة.
سنوات من المطالبات
هذه الإجراءات لم تأتِ من فراغ، بل كانت ثمرة أعوام من المطالبات المستمرة من عائلات ونشطاء حقوق الطفل، فقد شهدت بريطانيا حوادث هزت الرأي العام، مثل وفاة المراهقة مولي راسل عام 2017، بعدما تعرضت لمحتوى يحض على إيذاء النفس عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وحالات كهذه دفعت نحو إدراك الحاجة الماسة لتشريعات تُلزم الشركات بحماية القُصّر، بدلًا من تركها تتصرف وفق معاييرها التجارية وحدها.
على مدار العقد الماضي، تعاقبت المبادرات والتقارير الحكومية التي حذّرت من تأثير الإنترنت غير المنضبط على صحة الأطفال النفسية والجسدية، حتى جاء قانون السلامة على الإنترنت بمثابة استجابة تشريعية شاملة تهدف لإعادة رسم العلاقة بين التكنولوجيا والمجتمع.
بين حماية القُصّر وحقوق المستخدمين
بينما رحّب كثيرون في بريطانيا بإجراءات حماية القُصّر من المحتوى الضار على الإنترنت، لم يغب عن المشهد صوت المنظمات الحقوقية التي أبدت قلقًا متزايدًا بشأن التداعيات المحتملة لهذه القوانين على الحقوق والحريات الأساسية.
أولى هذه المخاوف تتعلق بالخصوصية وحماية البيانات الشخصية فقد عبرت منظمات مثل Privacy International وOpen Rights Group عن خشيتها أن تُحوّل إجراءات التحقق من العمر، مثل استخدام صور الوجه أو بيانات بطاقات الائتمان، ملايين المستخدمين –وبينهم أطفال– إلى بيانات رقمية حساسة معرضة للاختراق أو التسريب.
وتدور التساؤلات الكبرى هنا حول: من يملك هذه البيانات؟ ولأي مدة تُخزن؟ وهل يمكن أن تُستخدم لاحقًا لأغراض تجارية أو تسويقية؟ هذه الهواجس تجد صداها أيضًا في تقارير تحذر من بناء بنوك بيانات ضخمة تزيد خطر المراقبة بدلاً من الحد من الأضرار.
في محور آخر، يسلط الحقوقيون الضوء على حرية التعبير والوصول إلى المعلومات إذ يرى بعض النشطاء، مثل منظمة Article 19، أن القيود الصارمة المفروضة على المحتوى –حتى لو كان الهدف منها حماية القُصّر– قد تُحوّل الفضاء الرقمي البريطاني إلى إنترنت مقيد، يحجب مواد مشروعة موجهة للكبار، بما في ذلك محتوى تثقيفي أو فني يناقش قضايا حساسة. هذا الطرح يستند إلى مخاوف من أن تلجأ الشركات إلى الحذف المبالغ فيه خشية العقوبات الباهظة، فيغدو المحتوى المسموح أكثر تقييدًا مما ينبغي.
هل التكنولوجيا وحدها تكفي؟
يدور النقاش الأعمق، حول فعالية الحلول التقنية وحدها، ففي حين يقرّ الحقوقيون بضرورة حماية الأطفال، يدعون إلى رؤية أوسع لا تكتفي بفرض تقنيات التحقق من العمر، بل تشمل تصميمًا أكثر أمانًا للمنصات، وتثقيفًا رقميًا مستمرًا للآباء والأبناء، وإشرافًا بشريًا فعّالًا. على سبيل المثال، تدعو مؤسسة 5Rights Foundation –التي أسستها البارونة كيد رونر– إلى بناء بيئة رقمية صديقة للطفل من الأساس، بدلًا من الاكتفاء بحجب المحتوى بعد وقوع الضرر.
يشكّك بعض الخبراء في قدرة آليات التحقق من العمر على إيقاف وصول القُصّر تمامًا إلى المحتوى الضار، خاصةً في ظل وجود طرق تحايل كاستخدام هويات مزيفة أو أدوات إخفاء الهوية، ويؤكد هؤلاء أن أي جهد لحماية الأطفال يجب أن يتكامل مع دور الأهل والمدارس والتوعية المجتمعية، بدلاً من الاعتماد الكلي على الحلول التقنية.
وفي السياق، هناك تخوّف من أن تُثقل القوانين الجديدة كاهل الشركات الناشئة الصغيرة، إذ إن الالتزام بمتطلبات الحماية قد يتطلب استثمارات كبيرة، ما قد يعوق دخول منافسين جدد إلى السوق.
حلول متباينة لهدف واحد
تأتي جهود بريطانيا ضمن موجة عالمية تسعى لحماية الأطفال في الفضاء الرقمي، مع اختلاف في الأساليب والتشريعات، ففي الاتحاد الأوروبي، دخل قانون الخدمات الرقمية حيز التنفيذ ليفرض التزامات صارمة على المنصات الكبرى، في حين يناقش مشرعون هناك مشروع قانون يجبر الشركات على اتخاذ تدابير لحجب المواد الإباحية المتعلقة بالأطفال، وفي الولايات المتحدة، تطورت تشريعات مثل COPPA لتشمل تقييد الإعلانات الموجهة للأطفال وزيادة صرامة جمع بياناتهم.
أما دول مثل أستراليا ونيوزيلندا فقد اتجهت نحو حظر كامل على دخول القُصّر لمنصات التواصل الاجتماعي تحت سن 16 عامًا، مع فرض غرامات مالية كبيرة على الشركات غير الملتزمة، وفي الصين، يظهر نموذج أكثر صرامة عبر فرض قيود زمنية صارمة والتحقق الإجباري من الهوية.
بحسب مراقبين تؤشر التجربة البريطانية إلى مستقبل يتطلب يقظة دائمة وتطويرًا مستمرًا للتشريعات والوسائل التقنية لحماية الفئات الأكثر ضعفًا، لكن يظل التحدي في تحقيق توازن حقيقي: ضمان بيئة رقمية آمنة للأطفال، مع احترام خصوصية المستخدمين وحرية التعبير والإبداع.